فصل: تفسير الآيات (32- 36):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (29):

{وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29)}
يقول تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم: وقل يا محمد للناس: هذا الذي جئتكم به من ربكم هو الحق الذي لا مرية فيه ولا شك {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} هذا من باب التهديد والوعيد الشديد؛ ولهذا قال: {إِنَّا أَعْتَدْنَا} أي: أرصدنا {لِلظَّالِمِينَ} وهم الكافرون بالله ورسوله وكتابه {نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} أي: سورها.
قال الإمام أحمد: حدثنا حسن بن موسى، حدثنا ابن لَهيعة، حدثنا دَرَّاج، عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لسُرَادِق النار أربعة جُدُر، كثافة كل جدار مسافة أربعين سنة».
وأخرجه الترمذي في (صفة النار) وابن جرير في تفسيره، من حديث دراج أبي السَّمح به.
وقال ابن جريج: قال ابن عباس: {أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} قال: حائط من نار.
وقال ابن جرير: حدثني الحسين بن نصر والعباس بن محمد قالا حدثنا أبو عاصم، عن عبد الله بن أمية، حدثني محمد بن حيي بن يعلى، عن صفوان بن يعلى، عن يعلى بن أمية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «البحر هو جهنم» قال: فقيل له: كيف ذلك؟ فتلا هذه الآية- أو: قرأ هذه الآية-: {نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} ثم قال: «والله لا أدخلها أبدًا أو: ما دمت حيًا- ولا تصيبني منها قطرة».
وقوله: {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} قال ابن عباس: المهل: ماء غليظ مثل دردي الزيت.
وقال مجاهد: هو كالدم والقيح.
وقال عكرمة: هو الشيء الذي انتهى حَرّه: وقال آخرون: هو كل شيء أذيب.
وقال قتادة: أذاب ابنُ مسعود شيئًا من الذهب في أخدود، فلما انماع وأزبد قال: هذا أشبه شيء بالمهل.
وقال الضحاك: ماء جهنم أسود، وهي سوداء وأهلها سود.
وهذه الأقوال ليس شيء منها ينفي الآخر، فإن المهل يجمع هذه الأوصاف الرذيلة كلها، فهو أسود منتن غليظ حار؛ ولهذا قال: {يَشْوِي الْوُجُوهَ} أي: من حره، إذا أراد الكافر أن يشربه وقَرّبه من وجهه، شواه حتى يسقط جلد وجهه فيه، كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد بإسناده المتقدم في سُرادِق النار عن أبي سعيد الخدري، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ماء كالمهل». قال: «كعكر الزيت فإذا قربه إليه سقطت فروة وجهه فيه» وهكذا رواه الترمذي في (صفة النار) من جامعه، من حديث رِشْدِين بن سعد عن عمرو بن الحارث، عن دراج، به ثم قال: لا نعرفه إلا من حديث رشدين، وقد تكلم فيه من قبل حفظه، هكذا قال، وقد رواه الإمام أحمد كما تقدم عن حسن الأشيب، عن ابن لَهِيعة، عن دَرّاج، والله أعلم.
وقال عبد الله بن المبارك، وبَقِيَّة بن الوليد، عن صفوان بن عمرو، عن عبد الله بن بُسْر، عن أبي أمامة، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ} [إبراهيم: 16، 17] قال: «يقرب إليه فيَتَكرّهه، فإذا قرب منه شَوَى وجهَه ووقعت فروةُ رأسه، فإذا شربه قطع أمعاءه، يقول الله تعالى: {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ}».
وقال سعيد بن جبير: إذا جاع أهل النار استغاثوا بشجرة الزقوم، فأكلوا منها فاختلست جلود وجوههم، فلو أن مارًّا مرً بهم يعرفهم، لعرف جلود وجوههم فيها. ثم يصب عليهم العطش فيستغيثون. فيغاثون بماء كالمهل، وهو الذي قد انتهى حره، فإذا أدنوه من أفواههم اشتوى من حره لحوم وجوههم التي قد سقطت عنها الجلود.
ولهذا قال تعالى بعد وصفه هذا الشراب بهذه الصفات الذميمة القبيحة: {بِئْسَ الشَّرَابُ} أي: بئس هذا الشراب كما قال في الآية الأخرى: {وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} [محمد: 15] وقال تعالى: {تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ} [الغاشية: 5] أي: حارة، كما قال: {وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} [الرحمن: 44]
{وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} أي: وساءت النار منزلا ومَقِيلا ومجتمعًا وموضعًا للارتفاق كما قال في الآية الأخرى: {إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} [الفرقان: 66]

.تفسير الآيات (30- 31):

{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلا (30) أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (31)}
لما ذكر تعالى حال الأشقياء، ثنى بذكر السعداء، الذين آمنوا بالله وصدقوا المرسلين فيما جاؤوا به، وعملوا بما أمروهم به من الأعمال الصالحة، فلهم {جَنَّاتُ عَدْنٍ} والعدن: الإقامة.
{تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأنْهَارُ} أي: من تحت غرفهم ومنازلهم، قال لهم فرعون: {وَهَذِهِ الأنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [الزخرف: 51].
{يُحَلَّوْنَ} أي: من الحلية {فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ} وقال في المكان الآخر: {وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} [الحج: 23] وفصله هاهنا فقال: {وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ} فالسندس: لباس رقاع رقاق كالقمصان وما جرى مجراها، وأما الإستبرق فغليظ الديباج وفيه بريق.
وقوله: {مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأرَائِكِ} الاتكاء قيل: الاضطجاع وقيل التربع في الجلوس. وهو أشبه بالمراد هاهنا ومنه الحديث في الصحيح: «أما أنا فلا آكل متكئًا» فيه القولان.
والأرائك: جمع أريكة، وهي السرير تحت الحَجَلة، والحجلة كما يعرفه الناس في زماننا هذا بالباشخاناه، والله أعلم.
قال عبد الرزاق: أخبرنا مَعْمَرُ، عن قتادة: {عَلَى الأرَائِكِ} قال: هي الحجال. قال معمر: وقال غيره: السّرُر في الحجال.
وقوله: {نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا} أي: نعمت الجنة ثوابًا على أعمالهم {وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا} أي: حسنت منزلا ومقيلا ومقامًا، كما قال في النار: {بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف: 29]، وهكذا قابل بينهما في سورة الفرقان في قوله: {إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} [الفرقان: 66] ثم ذكر صفات المؤمنين فقال: {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} [الفرقان: 76، 75].

.تفسير الآيات (32- 36):

{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَرًا (33) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لأجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36)}
يقول الله تعالى بعد ذكر المشركين المستكبرين عن مجالسة الضعفاء والمساكين من المسلمين، وافتخروا عليهم بأموالهم وأحسابهم، فضرب لهم مثلا برجلين، جعل الله {لأحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ} أي: بستانين من أعناب، محفوفتين بالنخل المحدقة في جنباتهما، وفي خلالهما الزروع، وكل من الأشجار والزروع مثمر مُقبلٌ في غاية الجود؛ ولهذا قال: {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا} أي: خرجت ثمرها {وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا} أي: ولم تنقص منه شيئًا {وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَرًا} أي: والأنهار تتخرق فيهما هاهنا وهاهنا.
{وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ} قيل: المراد به: المال. رُوي عن ابن عباس، ومجاهد، وقتادة. وقيل: الثمار وهو أظهر هاهنا، ويؤيده القراءة الأخرى: {وكان له ثُمْر} بضم الثاء وتسكين الميم، فيكون جمع ثَمَرَة، كَخَشَبَة وخُشب، وقرأ آخرون: {ثَمَرٌ} بفتح الثاء والميم.
فقال- أي صاحب هاتين الجنتين- {لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ} أي: يجادله ويخاصمه، يفتخر عليه ويترأس: {أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالا وَأَعَزُّ نَفَرًا} أي: أكثر خدمًا وحشمًا وولدًا.
قال قتادة: تلك- والله- أمنية الفاجر: كثرة المال وعزة النفر.
وقوله: {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} أي: بكفره وتمرده وتكبره وتجبره وإنكاره المعاد {قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا} وذلك اغترار منه، لما رأى فيها من الزروع والثمار والأشجار والأنهار المطردة في جوانبها وأرجائها، ظن أنها لا تفنى ولا تفرغ ولا تهلك ولا تتلف وذلك لقلة عقله، وضعف يقينه بالله، وإعجابه بالحياة الدنيا وزينتها، وكفره بالآخرة؛ ولهذا قال: {وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً} أي: كائنة {وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لأجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا} أي: ولئن كان معاد ورجعة وَمَرَدٌّ إلى الله، ليكونَنّ لي هناك أحسن من هذا لأني مُحظى عند ربي، ولولا كرامتي عليه ما أعطاني هذا، كما قال في الآية الأخرى: {وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى} [فصلت: 50]، وقال {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأوتَيَنَّ مَالا وَوَلَدًا} [مريم: 77] أي: في الدار الآخرة، تألى على الله، عز وجل، وكان سبب نزولها في العاص بن وائل، كما سيأتي بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى، وبه الثقة.

.تفسير الآيات (37- 41):

{قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلا (37) لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38) وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالا وَوَلَدًا (39) فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40) أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41)}
يقول تعالى مخبرًا عما أجابه صاحبه المؤمن، واعظًا له وزاجرًا عما هو فيه من الكفر بالله والاغترار: {أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلا}؟ وهذا إنكار وتعظيم لما وقع فيه من جحود ربه، الذي خلقه وابتدأ خلق الإنسان من طين وهو آدم، ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين، كما قال تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} [البقرة: 280] أي: كيف تجحَدُون ربكم، ودلالته عليكم ظاهرة جلية، كل أحد يعلمها من نفسه، فإنه ما من أحد من المخلوقات إلا ويعلم أنه كان معدومًا ثم وجد، وليس وجوده من نفسه ولا مستندًا إلى شيء من المخلوقات؛ لأنه بمثابته فعلم إسناد إيجاده إلى خالقه، وهو الله، لا إله إلا هو، خالق كل شيء؛ ولذا قال: {لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي} أي: أنا لا أقول بمقالتك، بل أعترف لله بالربوبية والوحدانية {وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا} أي: بل هو الله المعبود وحده لا شريك له.
ثم قال: {وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالا وَوَلَدًا} هذا تحضيض وحث على ذلك، أي: هلا إذا أعجبتك حين دخلتها ونظرت إليها حمدت الله على ما أنعم به عليك، وأعطاك من المال والولد ما لم يعطه غيرك، وقلت: {مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ}؛ ولهذا قال بعض السلف: من أعجبه شيء من حاله أو ماله أو ولده أو ماله، فليقل: {مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ} وهذا مأخوذ من هذه الآية الكريمة. وقد روي فيه حديث مرفوع أخرجه الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده:
حدثنا جَرَّاح بن مَخْلَد، حدثنا عمر بن يونس، حدثنا عيسى بن عَوْن، حدثنا عبد الملك بن زُرَارَة، عن أنس، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أنعم الله على عبد نعمة من أهل أو مال أو ولد، فيقول: {مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ} فيرى فيه آفة دون الموت». وكان يتأول هذه الآية: {وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ}.
قال الحافظ أبو الفتح الأزدي: عيسى بن عون، عن عبد الملك بن زرارة، عن أنس: لا يصح حديثه.
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة وحجاج، حدثني شعبة، عن عاصم بن عبيد الله، عن عبيد مولى أبي رُهْم، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة؟ لا قوة إلا بالله».
تفرد به أحمد.
وقد ثبت في الصحيح عن أبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: «ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة؟ لا حول ولا قوة إلا بالله».
وقال الإمام أحمد: حدثنا بكر بن عيسى، حدثنا أبو عَوَانة، عن أبي بَلَج، عن عَمْرو بن ميمون قال: قال أبو هريرة: قال لي نبي الله صلى الله عليه وسلم: «يا أبا هريرة، أدلك على كنز من كنوز الجنة تحت العرش؟». قال: قلت: نعم، فداك أبي وأمي. قال: «أن تقول لا قوة إلا بالله» قال أبو بَلْج: وأحسب أنه قال: «فإن الله يقول: أسلم عبدي واستسلم». قال: فقلت لعمرو- قال أبو بَلْج: قال عَمْرو: قلت لأبي هريرة: لا حول ولا قوة إلا بالله؟ فقال: لا إنها في سورة الكهف: {وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ}
وقوله: {فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ} أي: في الدار الآخرة {وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا} أي: على جنتك في الدنيا التي ظننت أنها لا تبيد ولا تفنى {حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ} قال ابن عباس، والضحاك، وقتادة، ومالك عن الزهري: أي عذابًا من السماء.
والظاهر أنه مطر عظيم مزعج، يقلع زرعها وأشجارها؛ ولهذا قال: {فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا} أي: بلقعًا ترابًا أملس، لا يثبت فيه قَدم.
وقال ابن عباس: كالجُرز الذي لا ينبت شيئًا.
وقوله: {أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا} أي: غائرًا في الأرض، وهو ضد النابع الذي يطلب وجه الأرض، فالغائر يطلب أسفلها كما قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ} [الملك: 30] أي: جار وسائج.
وقال هاهنا: {أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا} والغور: مصدر بمعنى غائر، وهو أبلغ منه، كما قال الشاعر:
تَظَلّ جيّادُهُ نَوْحًا عَلَيه ** تُقَلّدُهُ أعنَّتَها صُفُوفا

بمعنى نائحات عليه.